الواحة الطبية

البكاء ونظرة المجتمع تجاهه

 قوة تكسر حاجز الصمت العميق

د.بسام درويش

مستشار في الإعلام الصحي والتطوير الطبي

كم من المرات احتبست دموعك عن الظهور، وكم مرة شعرت بمرارة العواطف دون أن تعبر عنها خوفًا من الكشف عن ذاتك الحقيقية؟

 وماذا شعرت عندما مسحت دمعة أحدهم عن وجهه؟

هل البكاء هو انكسار، ضعف، أم ربما هو في الحقيقة مصدر قوة؟

البكاء هو إحدى الوسائل الفطرية التي يعبر بها الإنسان عن مشاعره العميقة، سواء كانت إيجابية أو سلبية. ورغم أن البكاء له العديد من الفوائد النفسية والعاطفية، إلا أن نظرة المجتمع إليه تختلف حسب السياق والثقافة والجنس. بينما يُعتبر البكاء في بعض الحالات تعبيراً طبيعياً عن المشاعر، إلا أن بعض المجتمعات تنظر إلى بكاء الرجل بنوع من الاستهجان أو الاستغراب، مما يولّد ضغطًا نفسيًا واجتماعيًا على الرجال.

نظرة المجتمع إلى البكاء

في العديد من المجتمعات، يُنظر إلى البكاء على أنه تعبير عن الضعف أو العجز، خاصة في سياقات العمل أو المواقف التي تتطلب القوة والتحمل. يرتبط هذا التصور بعدة عوامل اجتماعية وثقافية ترسخ فكرة أن التحكم بالعواطف هو علامة على النضج والقوة، خاصة عند الرجال. في المقابل، يكون البكاء مقبولاً بدرجة أكبر عند النساء، ويتم تفسيره على أنه استجابة طبيعية للحزن أو الفرح أو الإجهاد.

بكاء الرجل: بين التقاليد والحداثة

البكاء غالبًا ما يُساء فهمه ويُنظر إليه في بعض الأحيان على أنه ضعف، خاصة عند الرجال، حيث تربط المجتمعات البكاء بعدم القدرة على التحكم بالعواطف. ومع ذلك، فإن البكاء هو تجربة إنسانية طبيعية وله العديد من الفوائد الصحية. تُظهر الأبحاث أن النساء الأمريكيات يبكين بمعدل 3.5 مرات شهريًا، بينما يبكي الرجال حوالي 1.9 مرات شهريًا، مما يتحدى الافتراض السائد بأن الرجال نادرًا ما يبكون.

لطالما اعتبر المجتمع التقليدي أن الرجل لا يبكي، حيث يُتوقع من الرجل أن يكون قوياً وقادراً على التحكم في مشاعره. تُعزز هذه الفكرة من خلال العبارات الشهيرة مثل “الرجال لا يبكون”، التي تعكس توقعات اجتماعية صارمة فيما يتعلق بتعبير الرجال عن مشاعرهم. يُعد البكاء لدى الرجل في بعض الثقافات رمزًا للضعف أو انعدام السيطرة، مما يؤدي إلى تثبيط الرجال عن التعبير العاطفي الحر.

ومع ذلك، في السنوات الأخيرة، بدأ هذا التصور في التغير. مع تصاعد الوعي حول الصحة النفسية وأهمية التعبير عن المشاعر بطريقة صحية، بات المزيد من الناس يدركون أن البكاء ليس علامة على الضعف، بل هو وسيلة طبيعية للتخفيف من التوتر العاطفي. البكاء، سواء للرجل أو المرأة، هو جزء من التجربة الإنسانية. العديد من الدراسات العلمية تدعم هذا الاتجاه، مشيرة إلى أن كبت المشاعر يمكن أن يؤدي إلى مشاكل صحية ونفسية على المدى الطويل.

كبت البكاء عند الرجال

يتعرض العديد من الرجال لضغوط اجتماعية لكبت مشاعرهم، بما في ذلك البكاء. هذه التوقعات التقليدية قد تؤدي إلى تراكم التوتر العاطفي، مما يزيد من احتمالات الإصابة بـ القلق و الاكتئاب. تشير بعض الدراسات إلى أن الرجال الذين يشعرون بالخجل أو العار من البكاء قد يواجهون صعوبة في التعامل مع مشاعرهم بطريقة صحية، مما يؤدي إلى آثار سلبية على صحتهم العقلية والجسدية.

على العكس، عندما يتم التعبير عن المشاعر دون حكم اجتماعي، فإن الشخص يكون أكثر قدرة على التعامل مع التحديات العاطفية والنفسية.

 البكاء هنا يصبح وسيلة للتفريغ والتخلص من الإجهاد، مما يعزز من الراحة النفسية.

التعبير الصحي عن العواطف

البكاء هو طريقة طبيعية لتفريغ المشاعر المعقدة. عندما يبكي الشخص، فإنه يطلق مشاعر الحزن أو الإحباط، مما يساعد في تخفيف التوتر والضغط.

عندما يتعلق الأمر بالرجال، فإن السماح لهم بالتعبير عن مشاعرهم بالبكاء قد يسهم في تحسين صحتهم النفسية والجسدية. من المهم أن يُفهم أن البكاء ليس فقط “عاطفة أنثوية”، بل هو آلية بشرية للتعبير عن المشاعر والتخلص من الضغوط.

البكاء له فوائد كبيرة للصحة النفسية، وقد أثبتت العديد من الدراسات ذلك.

فوائد البكاء للصحة

البكاء ليس مجرد استجابة عاطفية، بل هو أيضًا استجابة طبيعية لمجموعة من المشاعر، بدءًا من الحزن إلى الفرح الشديد. عبر التاريخ، اعتقد الفلاسفة والأطباء في اليونان وروما القديمة أن البكاء ينقي الجسم، ويعمل كوسيلة للتخلص من المشاعر السلبية. في العصر الحديث، يتفق علماء النفس على أن البكاء يساعد في تخفيف الضغط والألم العاطفي.

تشير الدراسات إلى أن كبت المشاعر (الذي يُعرف بالتكيف القمعي) يمكن أن يؤثر سلبًا على الصحة الجسدية والنفسية، حيث يؤدي إلى ضعف جهاز المناعة، وارتفاع ضغط الدم، وزيادة خطر الإصابة بأمراض القلب، وكذلك القلق والاكتئاب. على النقيض من ذلك، يُعتبر البكاء وسيلة للتخلص من التوتر والضغوط النفسية، مما يعزز من الصحة النفسية.

تشير بعض الأبحاث إلى أن البكاء يمكن أن يكون له فوائد صحية مثل خفض مستويات الكورتيزول (هرمون التوتر) وتحفيز إطلاق الإندورفين الذي يعمل كمسكن طبيعي للألم.

أنواع الدموع

هناك ثلاثة أنواع من الدموع:

  1. الدموع الانعكاسية: التي تطرد المهيجات مثل الدخان والغبار من العين.
  2. الدموع المستمرة: التي تُبقي العين رطبة وتحميها من العدوى.
  3. الدموع العاطفية: التي تحدث نتيجة لمشاعر قوية مثل الحزن أو الفرح.

 الدموع تغسل الأحزان وتبدد المشاعر السلبية ، والدموع العاطفية تتدفق نتيجة مشاعر قوية مثل الحزن أو الفرح،وهي تساهم في إفراز الأوكسيتوسين والإندورفين، وهما مواد كيميائية تساعد على تخفيف الألم العاطفي والجسدي. كما أن هذه الدموع تحتوي على مستويات أعلى من هرمونات التوتر مثل الكورتيزول، والتي يؤدي إطلاقها إلى تخفيف التوتر وتحسين المزاج.

البكاء أيضًا يساعد في تهدئة الجسم عن طريق تنشيط الجهاز العصبي اللاودي، مما يؤدي إلى خفض معدلات ضربات القلب والتنفس، ويساهم في تحقيق التوازن النفسي. بعض الدراسات تشير إلى أن البكاء يحسن من جودة النوم، خاصة بعد المواقف العاطفية الصعبة، إذ أن البكاء يقلل من التوتر ويمنح الشعور بالراحة.

ومع ذلك، فإن التأثير الإيجابي للبكاء على المزاج قد يختلف من شخص لآخر. على سبيل المثال، الأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب قد يبكون بشكل متكرر ولكن لا يشعرون بتحسن بعد ذلك كما يحدث لدى الآخرين.

عمومًا، يُعد البكاء وسيلة طبيعية لتنظيم المشاعر والتخلص من الضغوط، وله دور أساسي في دعم الصحة النفسية

تغيير الصورة النمطية للبكاء

مع التغيرات الاجتماعية الحديثة وزيادة الوعي بأهمية الصحة النفسية، بدأت الصورة النمطية حول البكاء تتغير. الحركات المعاصرة في مجال الصحة النفسية تدعو إلى كسر الحواجز المتعلقة بتوقعات المجتمع بشأن الرجل وتعبيره عن مشاعره، مما يعزز فكرة أن الرجال أيضًا يحق لهم البكاء دون الشعور بالعار أو الخجل. يدعو العديد من الخبراء إلى ضرورة تغيير هذه التصورات الاجتماعية التي تعيق النمو النفسي والعاطفي للأفراد.

البكاء ليس ضعفًا، بل هو قوة

يعتبر البكاء تعبيرًا صحيًا وطبيعيًا عن المشاعر الإنسانية، سواء كان الرجل أو المرأة هو من يبكي. من المهم أن نعيد النظر في القوالب الاجتماعية التي تحصر الرجل في نمط معين من التعبير العاطفي. السماح للرجل بالبكاء والتعبير عن مشاعره بحرية يمكن أن يسهم في تحسين صحته النفسية والجسدية، ويعزز من قدرته على مواجهة التحديات الحياتية بطريقة متوازنة وصحية.

في النهاية، البكاء ليس ضعفًا، بل هو قوة في التعبير عن المشاعر وتنظيمها، وهو جزء لا يتجزأ من التجربة الإنسانية.

bassam@balsamhealthcare.com

مقالات شائعة

Exit mobile version