المنتدى الصحي

 لماذا نصرّ على صرف قنطار للعلاج ؟

د.بسام درويش

مستشار في الإعلام الصحي والتطوير الطبي

في الوقت الذي تواجه فيه العديد من الدول تحديات كبيرة في قطاع الصحة، تظل قضية الإنفاق على العلاج مقابل الوقاية واحدة من أكثر القضايا إثارة للجدل، خصوصاً أن المثل القديم المتجدد دوماً ” درهم وقاية خير من قنطار علاج ” ، ومع ذلك يبقى السؤال :

لماذا نصر على صرف مبالغ باهظة على العلاج بعد وقوع المرض بدلاً من الاستثمار في الوقاية منه؟

هذا السؤال يستدعي التفكير في الاستراتيجيات الصحية وتوزيع الموارد بشكل أكثر فعالية ، خصوصاً أن كلفة المرض لا تقتصر على ما يتم دفعه مقابل الخدمة التشيخيصة والعلاجية ، وإنما الضريبة الكبرى والخسارة تتمثل في الخسارة البشرية وتأثير الصحة على القرارات الشخصية ، وعلى العلاقات الاجتماعية ، وعلى الإنتاج أيضاً ، فالفاتورة باهظة جداً ، ولكن هل وزراء الصحة أو وكلاء الصحة يعرفون كم كلفة مريض السكري مثلا أو المريض الذي يعاني من آلام في اسفل الظهر ، أو غير ذلك من الحالات المرضية التي يمكن الوقاية منها ، أو تشخيصها باكراً أو إدارتها بالطريقة الصحيحة لمنع حدوث مضاعفاتها ؟

وإذا كانوا يعرفون ، طيب ، لم لا يضعون الخطة الاستراتيجية الوطنية للوقاية من الامراض وفق مخطط زمني وأهداف محددة قابلة للتحقيق ؟

الوقاية أم العلاج؟

المعرفة أساس التوعية ، والتوعية هي الخطوة الأولى للوقاية من اخطر الأمراض ، والوقاية هي الدرع الأكثر فعالية في الحفاظ على الصحة العامة. على الرغم من ذلك، فإن الغالبية العظمى من الأنظمة الصحية تركز على العلاج بدلاً من الوقاية. وفقًا لتقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية، يُنفق نحو 90% من ميزانيات الصحة العالمية على العلاج، بينما يُخصص أقل من 10% للوقاية .

تكلفة عالية للعلاج

يُعتبر العلاج مكلفًا بشكل كبير، حيث تتطلب الأمراض المزمنة مثل السكري وأمراض القلب والسرطان موارد مالية ضخمة للعلاج والرعاية الطويلة الأمد. على سبيل المثال، في الولايات المتحدة، يُنفق نحو 3.8 تريليون دولار سنويًا على الرعاية الصحية، 90% منها تُخصص لعلاج الأمراض المزمنة والوقاية الثانوية .

الوقاية كاستثمار

الوقاية ليست فقط وسيلة لتجنب المرض، بل هي استثمار طويل الأمد في صحة الأفراد والمجتمع. يُظهر تقرير صادر عن مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC) أن كل دولار يُنفق على برامج الوقاية يمكن أن يوفر 5.60 دولار في تكاليف العلاج في المستقبل .

 تجارب ناجحة في الوقاية

تجربة فنلندا

فنلندا هي مثال ناجح لدولة ركزت على الوقاية وحققت نتائج مذهلة. في السبعينيات، كانت فنلندا تعاني من أعلى معدلات الوفاة بسبب أمراض القلب في العالم. استجابةً لذلك، أطلقت الحكومة برنامج “نورث كارليا” الذي ركز على التثقيف الصحي، تعزيز النشاط البدني، وتعديل العادات الغذائية. بمشاركة فعالة من المجتمع المحلي، تم تنظيم حملات توعية شملت المدارس، أماكن العمل، ووسائل الإعلام. هذه المبادرات أسفرت عن انخفاض معدلات الوفيات الناتجة عن أمراض القلب بنسبة 80% بحلول العقد التالي .

دور المجتمع في تعزيز الوقاية

للمجتمع دور حيوي في تعزيز الوقاية الصحية. يمكن للأفراد والمجتمعات المحلية تبني عادات صحية والتعاون مع الحكومات والمنظمات غير الحكومية لتنظيم حملات التوعية الصحية. في فنلندا، كان لمشاركة المجتمع دور كبير في نجاح برنامج “نورث كارليا”، حيث تعاونت المدارس، الشركات، والمواطنون في تبني نمط حياة صحي.

 خريطة طريق للوقاية في المنطقة العربية

لتحقيق نتائج فعالة في الوقاية في المنطقة العربية، يجب وضع خطة استراتيجية شاملة تشمل النقاط التالية:

1. التثقيف الصحي:

    – إطلاق حملات توعية صحية واسعة النطاق باستخدام وسائل الإعلام المحلية والاجتماعية.

    – تضمين برامج تعليمية حول الصحة في المناهج الدراسية من مراحل التعليم الأولى. بمعنى آخر دمج التثقيف الصحي ضمن المناهج التدريسية ، بشكل عملي وجذاب .

    – تنظيم ورش عمل ومحاضرات تثقيفية بالتعاون مع المدارس والجامعات وأماكن العمل.

2. تعزيز النشاط البدني:

    – إنشاء وتطوير البنية التحتية للرياضة والترفيه، مثل المنتزهات العامة ومراكز اللياقة البدنية.

    – تشجيع ممارسة الرياضة من خلال تنظيم فعاليات ومسابقات رياضية مجتمعية ، ففي دبي منذ سنوات عديدة كانت هناك مبادرة استهدفت الشباب ، أطلقتها القيادة العامة لشرطة دبي في نادي ضباط الشرطة ، ومنذ حوالي سبع سنوات تقريباً أطلق سمو الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم ، مبادرة ” تحدي دبي 30X  30  ، طيلة شهر نوفمبر من كل عام ، والذي يهدف الى أن تصبح الرياضة أسلوب حياة ، وفي دبي ممرات رياضية  آمنة في الأحياء السكنية ، و بالقرب من الشواطئ ، لممارسة رياضة المشي والجري وركوب الدراجات الهوائية .

    – دعم برامج الرياضة المدرسية وتشجيع الطلاب على المشاركة فيها. مع ضرورة تشجيع المباريات والمنافسات وممارسة الرياضة لمدة لا تقل عن عشر دقائق في الطابور الصباحي ، بحضور الأهالي والهيئة التدريسية ، والطلبة .

3. التغذية الصحية:

    – تقديم حملات توعية حول الأكل الصحي وأهمية التغذية المتوازنة.

    – دعم الزراعة المحلية وتوفير منتجات غذائية صحية بأسعار معقولة.

    – تنظيم برامج توعية غذائية بالتعاون مع المطاعم والمحلات التجارية لتقديم خيارات صحية.

4. الشراكات المجتمعية:

    – تعزيز التعاون بين الحكومات، المؤسسات الصحية، والمنظمات غير الحكومية لتنفيذ برامج الوقاية.

    – تشجيع الشركات والمؤسسات على تبني مبادرات صحية لموظفيها، مثل برامج الفحص الدوري والنشاط البدني.

    – إشراك المجتمع المحلي في تخطيط وتنفيذ حملات التوعية الصحية.

5. التقييم والمتابعة:

    – قياس فعالية البرامج الوقائية بشكل دوري وتعديلها حسب الحاجة.

    – جمع البيانات والإحصاءات الصحية لتحليل تأثير برامج الوقاية وتحديد المجالات التي تحتاج إلى تحسين.

    – نشر تقارير دورية حول نتائج برامج الوقاية لإبقاء المجتمع والحكومات على اطلاع دائم بالتقدم المحرز.

أخيراً لا بد من إعادة النظر في المناهج التدريسية في كليات الطب من أجل أن تهيء الطلبة لكي يكون لهم دور أساسي في التوعية الصحية وتحسين الصحة و جودة الحياة ، وليس مجرد معالجة المرض ، مع ضرورة التخطيط  الصحي بشكل جيد ، بحيث يتم توفير مراكز الرعاية الصحية الأولية التي تعتمد بشكل أساسي على تخصص طب الأسرة ، وكلما تم توفير عدد أكبر من هذه المراكز قلت حاجتنا لبناء المزيد من المستشفيات .

وبالطبع يجب إعادة النظر في ما تقدمه شركات التأمين ، التي تدفع للعلاج ، ولا تدفع للفحوصات الدورية المهمة جداً أو ترفض تحاليل ضرورية جداً.

الاستثمار في الوقاية ليس فقط خيارًا حكيمًا من الناحية الاقتصادية، بل هو ضرورة لتحسين جودة الحياة للأفراد وتقليل الضغط على الأنظمة الصحية. يجب أن نتعلم من التجارب الناجحة مثل تجربة فنلندا ونعيد توجيه مواردنا نحو الوقاية لضمان مستقبل صحي ومستدام. إن التحول نحو الوقاية هو الخطوة الأكثر فعالية لتحقيق هذا الهدف، ويجب أن يكون جزءًا أساسيًا من أي استراتيجية صحية شاملة في المنطقة العربية، وأي استراتيجية صحية تبدأ من الأسفل ، مما يحتاجه المجتمع ، باعتبار أن الصحة هدف أساسي في الحياة ، والصحة للجميع ومن خلال الجميع .

bassam@balsamhealthcare.com

مقالات شائعة

Exit mobile version