المنتدى الصحي

من أجل مستقبل صحي واقتصاد مزدهر:لماذا نحتاج إلى سياسات حازمة لمكافحة السمنة؟

د.بسام درويش
مستشار في الإعلام الصحي والتطوير الطبي

تُعَدُّ البدانة من أكبر التحديات الصحية في العالم، ولها تأثيرات كبيرة على صحة الأفراد واقتصاديات الدول. ففي عام 2019، قدَّرت منظمة الصحة العالمية أن أكثر من 1.9 مليار بالغ يعانون من زيادة الوزن، من بينهم 650 مليون يعانون من البدانة المفرطة. وتشكّل هذه الأرقام ضغطًا كبيرًا على الأنظمة الصحية، حيث تتسبب البدانة بزيادة تكاليف الرعاية الصحية وتفاقم أعباء الأمراض المزمنة مثل السكري، وأمراض القلب، وضغط الدم.
من الناحية الاقتصادية، تتحمل الدول أعباءً مالية ضخمة جراء تكاليف علاج الأمراض المرتبطة بالسمنة. على سبيل المثال، تشير التقديرات إلى أن تكاليف السمنة السنوية على الاقتصاد الأمريكي تصل إلى نحو 147 مليار دولار. وفي الشرق الأوسط، تُقدَّر تكاليف الرعاية الصحية المتعلقة بالسمنة بمليارات الدولارات سنويًا، ما يشكل تحديًا كبيرًا لميزانيات الصحة الوطنية. وتشير الأبحاث إلى أن الوقاية من السمنة قد تخفض تكاليف الرعاية الصحية بنسبة 20-30% على المدى البعيد، ما يجعل الاستثمار في برامج مكافحة السمنة ضرورة اقتصادية وصحية على حد سواء.
السمنة: أكثر من مجرد وزن زائد
ترتبط السمنة بأضرار جسيمة تؤثر على وظائف الجسم، حيث لم تعد تُعد فقط مسألة وزن زائد، بل هي حالة مرضية معقدة تحمل عقابيل صحية خطيرة ومتعددة. تشير الأدلة العلمية إلى أن السمنة ترتبط بضعف التمثيل الغذائي وتفاقم أمراض مثل السكري، وأمراض الكبد الدهنية، وتوقف التنفس أثناء النوم، وحصى المرارة، مما يؤثر بشكل مباشر على حياة الأفراد ويضعهم أمام تحديات صحية كبيرة.
آثار هيكلية تُضعف الحركة وتزيد من الألم
تؤدي السمنة إلى إعاقات هيكلية متزايدة، تجعل الحركة اليومية تحديًا كبيرًا. يعاني الأفراد المصابون بالسمنة من صعوبة في المشي، ويزيد خطر إصابتهم بمرض الارتجاع المعدي، وارتفاع ضغط الدم داخل الجمجمة، وعدد لا يحصى من المضاعفات الهيكلية التي تؤدي إلى تفاقم الألم وعدم الراحة. هذه الإعاقات تُظهر التدهور التدريجي في الوظائف الفسيولوجية الأساسية للجسم، التي تتأثر بسبب اختلال في نظام تنظيم الطاقة، وهو ما يؤدي إلى زيادة غير طبيعية في كتلة الدهون بالجسم.
ضعف الجهاز المناعي وزيادة خطر السرطان
تشير الدراسات إلى أن السمنة تسهم في إضعاف جهاز المناعة، مما يجعل الجسم عرضة للإصابة بالأمراض. كما أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين السمنة وبعض أنواع السرطان، حيث تعزز البيئة الجسمانية الناتجة عن السمنة من فرص نمو الخلايا السرطانية. بالإضافة إلى ذلك، تُسهم السمنة في مشاكل نفسية خطيرة، حيث يعاني الكثيرون من تدني الثقة بالنفس والاكتئاب، ما يزيد من التأثيرات السلبية الشاملة على صحة الجسم والعقل.
السمنة وأمراض العصر الحديث: أكثر من 200 مرض مرتبط بها
كشفت دراسة حديثة عن ارتباط السمنة بأكثر من 229 حالة مرضية مشتركة، تؤثر على جميع أجهزة الجسم تقريبًا، بما في ذلك الجهاز التمثيلي، والجهاز الهيكلي، والجهاز المناعي، إضافةً إلى الجهاز العصبي والنفسي. وتؤدي السمنة إلى تفاقم التهابات الجسم وأمراضه التنكسية، مما يضعف القدرة الجسدية ويزيد من أعباء العلاج. مع تزايد الأبحاث، يُتوقع أن يتضاعف عدد الأمراض المرتبطة بالسمنة، خاصة الأمراض المزمنة التي تؤثر على الصحة العامة وتضع ضغطًا كبيرًا على الأنظمة الصحية.
العبء الاجتماعي والاقتصادي للسمنة
تُشكل السمنة عبئًا ثقيلًا على الأفراد والمجتمعات، فإلى جانب الارتفاع الملحوظ في معدلات الإصابة بالأمراض، ترتبط السمنة بارتفاع معدلات الوفاة المبكرة وتراجع جودة الحياة. وهذا يؤثر بشكل كبير على الاقتصاد، حيث تتكبد الأنظمة الصحية نفقات عالية لعلاج الأمراض المزمنة المرتبطة بالسمنة.
تُعد السمنة اليوم حالة مرضية متكاملة، تؤدي إلى إضعاف الجسم وزيادة مخاطر الوفاة المبكرة، مما يجعل مواجهتها أولوية قصوى للأفراد والمجتمعات.


• التحديات التي تواجه مكافحة البدانة
• العادات الغذائية الضارة: انتشار الأطعمة السريعة والمشروبات السكرية بشكل كبير، إضافة إلى العادات الغذائية غير المتوازنة، يساهم بشكل مباشر في تفاقم السمنة.
• قلة النشاط البدني: تعاني العديد من المجتمعات، وخاصة في المدن الكبيرة، من قلة المساحات المفتوحة والنشاط البدني، ما يؤدي إلى ارتفاع معدل السمنة نتيجة الاعتماد المفرط على وسائل النقل وعدم ممارسة التمارين الرياضية.
• التحديات الاجتماعية والنفسية: في بعض المجتمعات، يُنظر إلى تناول الطعام كمحور للترفيه والتجمعات الاجتماعية، مما يعزز من احتمالية الإفراط في الأكل. إضافة إلى ذلك، قد يكون تناول الطعام كرد فعل على التوتر أو الاكتئاب، مما يزيد من وزن الفرد.
• التأثير الوراثي: تلعب الجينات دورًا في استعداد الفرد لزيادة الوزن، لكن العوامل البيئية تبقى العامل الأساسي.
تجارب عالمية ناجحة لمكافحة البدانة
 أثبتت العديد من الدول أن مكافحة السمنة ليست تحديًا مستحيلًا، بل يمكن تحقيقها من خلال سياسات وإجراءات فعالة:
 اليابان: تعزيز التغذية الصحية منذ الصغر
 تتبنى اليابان سياسات مشددة لتعزيز التغذية السليمة منذ الطفولة، حيث يتم تقديم وجبات صحية ومتوازنة في المدارس. كما يشارك الأهالي في دعم هذه الجهود، مما ساهم في تقليل معدلات السمنة لدى الأطفال وجعل اليابان ضمن أقل الدول في نسبة السمنة.
 المكسيك: فرض ضرائب على المشروبات السكرية
 فرضت المكسيك ضرائب على المشروبات السكرية، مما أدى إلى انخفاض استهلاكها بنسبة 10% تقريبًا. وقد تم توجيه جزء من هذه الضرائب لتمويل برامج مكافحة السمنة، مما أسهم في تقليل الاستهلاك العام للمشروبات الغنية بالسعرات الحرارية وتعزيز الوعي بالمخاطر الصحية المرتبطة بها.
 دبي: تحدي اللياقة
 أطلق سمو الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم “تحدي دبي للياقة” لتشجيع أفراد المجتمع على ممارسة الرياضة يوميًا لمدة 30 دقيقة على مدى 30 يومًا. وقد حقق هذا التحدي شعبية كبيرة وشجّع الناس من مختلف الأعمار على تبني نمط حياة صحي ونشيط، مما ساهم في رفع الوعي حول أهمية النشاط البدني.
 المملكة المتحدة: ملصقات السعرات الحرارية
 تفرض الحكومة البريطانية على المطاعم الكبرى وضع ملصقات توضح السعرات الحرارية لكل وجبة، مما يساعد الناس على اتخاذ قرارات غذائية أكثر وعيًا. ونتيجة لذلك، أصبحت خيارات الطعام الصحي أكثر شعبية بين الناس، مما أسهم في تقليل معدلات السمنة.
الحلول المقترحة لمكافحة البدانة في العالم العربي
 في العالم العربي، يعاني عدد متزايد من السكان من السمنة، ما يستدعي تنفيذ حلول مبتكرة وشاملة للحد من هذه الظاهرة:
 التوعية المجتمعية الشاملة: يمكن إطلاق حملات توعية تشمل جميع الفئات العمرية، وتُقام في المدارس، وأماكن العمل، ووسائل الإعلام. كما يمكن تعزيز المعرفة حول مخاطر السمنة وأساليب الوقاية منها.
 تشجيع النشاط البدني: توفير مساحات عامة لممارسة الرياضة، وتوفير أنشطة ترفيهية رياضية مثل المهرجانات والفعاليات الرياضية العامة. كذلك يمكن تقديم خصومات على عضوية النوادي الرياضية وتشجيع المشاركة في الرياضات الجماعية.
 الضرائب على المنتجات غير الصحية: فرض ضرائب على المنتجات الغنية بالسكريات والدهون مثل المشروبات الغازية والأطعمة السريعة، وتوجيه هذه الإيرادات لدعم برامج التوعية وتعزيز البنية التحتية الصحية.
 الدمج في المناهج التعليمية: إدراج التوعية الغذائية ومبادئ الصحة العامة في المناهج الدراسية بهدف ترسيخ الوعي الصحي منذ الصغر، مما يعزز العادات الصحية ويشجع الأطفال على اختيار الأطعمة المفيدة والاهتمام بالنشاط البدني.
 التعاون مع المؤسسات الدينية: توضيح أن الحفاظ على الصحة جزء من التعاليم الدينية، وأن التغذية السليمة والعناية بالجسم من الأمور التي تُعتبر ملزمة ، و يمكن أن يساهم رجال الدين في التقليل من وصمة العار الخاصة بالبدانة .
اقتصاديات الصحة في كلفة الوقاية والعلاج
إن الاستثمار في الوقاية من البدانة يمكن أن يؤدي إلى تخفيض كبير في تكاليف الرعاية الصحية على المدى الطويل. إذ تشير الدراسات إلى أن الوقاية من السمنة قد توفر ما يصل إلى 30% من تكاليف علاج الأمراض المزمنة المرتبطة بها. وبالنظر إلى تكاليف العلاج المرتفعة للأمراض الناتجة عن السمنة مثل السكري وأمراض القلب، فإن تقليل هذه التكاليف يسهم بشكل كبير في تخفيف العبء الاقتصادي على الحكومات والأفراد.
إن مشكلة البدانة تتطلب جهودًا جماعية وتنسيقًا بين الحكومات والمؤسسات الصحية والمجتمعات لتبني نمط حياة صحي ومستدام. إن التحديات التي تواجه العالم العربي في هذا المجال ليست مستعصية، ويمكن التغلب عليها من خلال تطبيق تجارب عالمية ناجحة وتكييفها لتناسب الثقافات المحلية.
مما لاشك فيه أن تبني نمط حياة صحي لا ينقذ حياة الأفراد فقط، بل يعزز من الاقتصاد الوطني عبر تخفيض تكاليف الرعاية الصحية وتعزيز الإنتاجية في المجتمع.
bassam@balsamhealthcare.com

مقالات شائعة

Exit mobile version