عندما تتأمل العالم من حولك، تجد أن قلقًا ثقيلًا يخيّم في الأجواء، وكأن الإنسانية بأسرها تخطو فوق حقل من الأسلاك الشائكة النفسية، أصداؤها تتردد بين الأزمات التي لا تنتهي. زادت الجائحة العالمية من حدة هذه التوترات، حيث تشير الأبحاث إلى أن حالات الاكتئاب والقلق قد ارتفعت بنحو 25% عالميًا بعد تفشي كوفيد-19، وتحولت الحياة لكثيرين إلى دوامة من التوتر والعزلة، مما ألقى بظلاله على الصحة النفسية والاجتماعية. في أوروبا، يعاني حوالي 38% من السكان من اضطراب نفسي واحد على الأقل سنويًا، بينما يواجه 35% من الطلاب الجامعيين حول العالم اضطرابات مماثلة. وفي الولايات المتحدة، توفي نحو نصف مليون شخص بسبب الجرعات الزائدة من المخدرات في عام 2017 وحده، وأُضيف إليهم 50,000 آخرين جراء الانتحار، تاركين خلفهم أسئلة مؤلمة حول معنى البقاء وسط هذه الفوضى النفسية.
وفي وسط هذه المعاناة البشرية المستمرة، وجدت نفسي أعيد قراءة فصول من كتاب الدكتور راندولف نيسه، “أسباب جيدة لمشاعر سيئة: رؤى من علم النفس التطوري”. بتعبير سلس وبصيرة عميقة، يأخذنا نيسه – وهو من رواد الطب النفسي التطوري – في رحلة شائكة عبر النفس البشرية لفهم لماذا نحمل تلك المشاعر التي تبدو سلبية، مثل القلق والاكتئاب، وكيف يمكن لها أن تحمل قيمة عميقة ارتبطت بآليات بقاء الإنسان وتطوره.
يرى نيسه أن هذه المشاعر لم تكن مجرد عبءٍ على البشرية، بل أنها في جذورها آليات دفاعية تطورت لتساعد أسلافنا على البقاء في عالم مليء بالتحديات.
بأسلوب أدبي مشوّق وطرح علمي عميق، يفتح الكتاب آفاقًا جديدة لفهم الاضطرابات النفسية، حيث يكشف عن أن القلق، الذي نشعر به وكأنه عبء ثقيل، قد يكون نداءً داخليًا ينبّهنا إلى الأخطار، وأن الاكتئاب قد يكون بمثابة فرصة للتراجع وإعادة التفكير. هذه المشاعر، برغم ثقلها، تشكل جزءًا من التراث النفسي للبشرية. وكأنها تحكي قصة تطورنا، إذ أنها كانت قادرة، على مر العصور، على حماية الإنسان من الوقوع في المخاطر ودفعه نحو خيارات البقاء الآمنة.
من خلال هذا الكتاب، يجيب نيسه على تساؤلاتنا الوجودية التي تتعلق بالمعاناة، فيعيد صياغة منظورنا حول الاضطرابات النفسية، ويقدم لنا تفسيرًا جريئًا يكشف عن أعماق النفس البشرية وكيف صاغت تلك المشاعر “السلبية” إنسانيتنا.
يبدأ نيسه بالحديث عن المشاعر السلبية مثل القلق والاكتئاب، والتي قد تبدو في ظاهرها ضارة ومؤلمة، لكن لها جذورًا عميقة في تاريخنا التطوري. يشير إلى أن القلق، على سبيل المثال، قد نشأ كآلية تحذير وتنبيه من المخاطر المحتملة. في الماضي، كان البشر عرضة لأخطار مختلفة تتطلب ردود فعل سريعة، مثل الهرب من حيوان مفترس أو تجنب بيئة خطرة. لذا، كان القلق وسيلة فعّالة للحفاظ على البقاء، حيث يساعد الفرد على أن يكون في حالة استعداد دائم للتعامل مع التهديدات.
فيما يخص الاكتئاب، يوضح نيسه أن الشعور باليأس أو فقدان الرغبة يمكن أن يكون وسيلة لتوجيه الفرد للتراجع وإعادة التفكير في وضعه الحالي، خاصة إذا كان يسعى وراء أهداف غير قابلة للتحقيق. من خلال هذا التراجع، يمكن للفرد تجنب المزيد من المخاطر وإعادة توجيه طاقته نحو أهداف جديدة أكثر واقعية. وفي سياقات معينة، كانت هذه المشاعر ضرورية للبقاء وتجنب الخسائر الكبيرة.
مبدأ “كاشف الدخان”
يُقدم نيسه ما يُعرف بـ”مبدأ كاشف الدخان” لفهم دور المشاعر السلبية. يشير هذا المبدأ إلى أن بعض المشاعر السلبية تعمل كأجهزة إنذار منخفضة التكلفة لمواقف تهدد الحياة، حتى وإن كانت تسبب أحيانًا إنذارات كاذبة. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يُثير الذعر أو القلق شعورًا بالخوف الشديد حتى في الحالات التي قد لا تتطلب هذا الرد، لكن هذا الشعور يُحافظ على قدرة الجسم على الاستجابة بسرعة عالية للمواقف الخطيرة.
ومن خلال هذا المبدأ، يفسر نيسه اضطرابات مثل اضطراب الهلع كنوع من الإنذار الكاذب داخل نظام التحذير الطارئ في الجسم، حيث يتسبب القلق الزائد في ردود فعل غير ضرورية في بيئات لا تشكل خطرًا حقيقيًا.
تأثير البيئة الحديثة على الاستجابات النفسية القديمة
يستكشف نيسه كيف تؤثر البيئات الحديثة في حياتنا على هذه الآليات النفسية القديمة. فمع تزايد ضغوط الحياة العصرية وتطور متطلبات الحياة اليومية، قد تُظهر المشاعر التي كانت ذات يوم مفيدة للبقاء استجابات غير ملائمة، وتتحول إلى اضطرابات نفسية، مثل الإجهاد المزمن والاكتئاب.
يرى نيسه أن هناك فجوة بين البيئة التي تطورنا فيها ككائنات بشرية، وبين البيئة الحديثة التي نعيش فيها اليوم، مما يخلق حالة من “عدم التطابق”. هذا التباين يجعل الإنسان يشعر بأنه غير قادر على التعامل مع الضغوط التي يواجهها بفعالية، مما يؤدي إلى تفاقم المشاعر السلبية مثل القلق.
رؤية جديدة للاضطرابات النفسية
يؤكد نيسه أن الاضطرابات النفسية ليست مجرد حالات مرضية ينبغي التخلص منها، بل يمكن اعتبارها استجابات طبيعية تطورت عبر الزمن لحماية الإنسان من المخاطر. ومن خلال عدسة التطور، يدعو نيسه إلى تغيير نظرتنا إلى القلق والاكتئاب، فبدلاً من اعتبارها حالات غير طبيعية، يمكن فهمها كجزء من التراث النفسي الذي ساهم في بقاء البشر وتكيفهم مع بيئات قاسية.
على سبيل المثال، يمكن للاكتئاب، على الرغم من تأثيره السلبي على الشخص، أن يُشكل استجابة لتجنب المخاطر وتحديد الأولويات. يمكن أن يساعد الفرد على التوقف وإعادة تقييم أهدافه الحالية. وفي حالات أخرى، يمكن للقلق أن يزيد من استعداد الفرد لمواجهة التحديات والتخطيط بشكل أفضل للمستقبل، مما يجعل هذه المشاعر تؤدي دورًا مهمًا في حياة الإنسان.
نهج جديد لفهم الاضطرابات النفسية
يعتبر كتاب”أسباب جيدة للمشاعر السيئة” مساهمة مهمة في مجال الطب النفسي التطوري، حيث يفتح الباب أمام نهج جديد لفهم الاضطرابات النفسية. يقدم الكتاب فرضية مفادها أن بعض الأعراض النفسية التي نعتبرها اضطرابات قد تكون تكيفات تطورت لأسباب معينة، ويقترح أن هذه الأعراض قد تكون مفيدة في بعض الحالات.
يركز الكتاب على كيف يمكن للمعرفة التطورية أن تساعد الأطباء والمعالجين النفسيين على تقديم رعاية نفسية تعتمد على فهم أعمق لأصل المشاعر السلبية ودورها. بدلاً من محاولة القضاء على هذه المشاعر، يمكن للمعالجين مساعدة الأفراد على التعايش معها وفهم ما تدل عليه تلك الأعراض في ضوء احتياجاتهم الحالية.
المتعة والمخاطر في الحياة الاجتماعية
يقدم نيسه رؤى حول التفاعل الاجتماعي وكيفية تأثر صحتنا النفسية بما يعتقده الآخرون عنا. ويستعرض كيف أن البشر، باعتبارهم كائنات اجتماعية، لديهم حساسية عالية تجاه الآراء والمشاعر التي يشاركها الآخرون تجاههم. ويعكس الكتاب دور هذه الآليات النفسية في تشكيل تصرفاتنا وتفاعلنا مع المحيط الاجتماعي، وكيفية تأثير هذا التفاعل على صحتنا النفسية.
يمثل التفاعل الاجتماعي تحديًا كبيرًا للإنسان، حيث أن ما يعتقده الآخرون عن الشخص قد يؤثر بشكل كبير على حالته النفسية. يرى نيسه أن هذه الحساسية كانت قديمة وعميقة في تطورنا، حيث كانت تساهم في الحفاظ على التماسك الاجتماعي وضمان الانتماء.
السلوكيات الجنسية والنفسية غير المسيطر عليها
في الجزء الأخير من الكتاب، يناقش نيسه السلوك الجنسي وإدمان المخدرات من منظور تطوري. ويشير إلى أن البشر اكتشفوا مع مرور الزمن مواد طبيعية يمكنها أن تُشبع نظام المتعة في الجسم، ما يثير حالة من النشوة، لكن في البيئات الطبيعية كانت هذه المواد نادرة وغير متاحة بتركيزات عالية، مما جعل الدفاعات ضد الإفراط في استخدامها غير ضرورية.
أما في البيئات الحديثة، حيث تتوافر هذه المواد بتركيزات عالية، فقد أصبحت الإدمان والإفراط في استخدامها أمرًا شائعًا. ويعرض نيسه كيف أن هذه المستجدات في البيئة الحديثة لم تُعط الإنسان الوقت الكافي لتطوير دفاعات ضد الإدمان، ما يفسر ارتفاع معدلات الإدمان على المخدرات والمواد المسببة للنشوة.
دعوة للتأمل في المشاعر السلبية من منظور جديد
يعد كتاب “أسباب جيدة للمشاعر السيئة” كتاباً غنياً بالرؤى والأفكار التي تشجع القراء على فهم مشاعرهم السلبية كجزء من آليات نفسية تطورت للحفاظ على البقاء. يشجع الكتاب القارئ على النظر إلى القلق والاكتئاب ليس كأعراض يجب التخلص منها، بل كأجزاء طبيعية من تجربة الإنسان.
إن فهم الجذور التطورية لهذه المشاعر السلبية يفتح آفاقاً جديدة للتعامل معها، ويساعدنا على تقديم رعاية نفسية تعتمد على نظرة شاملة، تدرك دور هذه المشاعر وأهميتها في حياتنا وتاريخنا.
المصدر:
.Randolph M. Nesse, Good Reasons for Bad Feelings:
Insights from the Frontier of Evolutionary Psychiatry