د.بسام درويش
مستشار في الإعلام الصحي والتطوير الطبي
في عالمنا المعاصر، يتجاوز تأثير الأمراض حدود الصحة الفردية ليصبح تحديًا اقتصاديًا له تبعات بعيدة المدى. فالتغيب عن العمل بسبب الأمراض يؤثر سلبًا على الاقتصاد بشكل مباشر وغير مباشر، حيث يمثل هدرًا للموارد ويؤدي إلى انخفاض الإنتاجية.
كيف يمكن لتطبيق الحلول الوقائية والتقنيات الحديثة أن يقلل من هذا الهدر ويساهم في تعزيز الإنتاجية؟
أولًا: التغيب عن العمل والأمراض – تحدي اقتصادي ضخم
ينعكس التغيب عن العمل بسبب الأمراض، سواء كانت مزمنة أو حادة، على الأداء الاقتصادي للشركات والحكومات. فوفقًا لتقديرات منظمة الصحة العالمية، تصل خسائر الإنتاجية بسبب الأمراض المزمنة وحدها إلى ما يقارب 4% من الناتج المحلي الإجمالي في بعض البلدان، وهو رقم ضخم يعكس حجم التأثير السلبي على الاقتصاد.
إضافةً إلى ذلك، فإن بعض الأمراض المعدية مثل الإنفلونزا الموسمية وفيروسات الجهاز التنفسي تفرض أحيانًا على المؤسسات اتخاذ إجراءات وقائية مكلفة لتجنب انتشار العدوى بين الموظفين، مما يزيد من التكاليف التشغيلية.
ثانيًا: التكلفة الاقتصادية للتغيب – بين التكاليف المباشرة وغير المباشرة
لتحديد حجم التأثير الحقيقي للتغيب عن العمل بسبب الأمراض، يجب التطرق إلى أنواع التكاليف المرتبطة به:
- التكاليف المباشرة: وتشمل نفقات الرعاية الصحية والعلاج والأدوية، مما يمثل عبئًا إضافيًا على الشركات والمؤسسات.
- التكاليف غير المباشرة: وتشمل خسائر الإنتاجية الناجمة عن غياب الموظفين، فضلاً عن الحاجة إلى استبدالهم أو توزيع مهامهم على الآخرين، مما يؤثر على كفاءة العمل بشكل عام.
تشير الدراسات إلى أن خفض معدلات التغيب عن العمل قد يؤدي إلى تحقيق وفورات اقتصادية كبيرة، حيث أن التكاليف غير المباشرة قد تكون أضعاف التكاليف المباشرة في بعض الحالات.
ثالثًا: حلول مبتكرة للحد من التغيب وتحسين الإنتاجية
يمكن للشركات والحكومات تبني مجموعة من الحلول المبتكرة لتحسين صحة الموظفين وتعزيز الإنتاجية، منها:
- تعزيز الصحة الوقائية:
- تعد الوقاية أفضل من العلاج، وتظهر الأبحاث أن برامج الفحص الدوري والتوعية الصحية داخل بيئة العمل تساعد في اكتشاف الأمراض المزمنة مبكرًا، مما يقلل من فترات التغيب الطويلة.
- تطبيق حملات للتوعية بالتغذية السليمة، ومكافحة التدخين، وزيادة النشاط البدني يمكن أن يقلل من خطر الإصابة بأمراض مزمنة.
- تحسين بيئة العمل النفسية:
- يلعب التوتر والضغط النفسي دورًا كبيرًا في التأثير على صحة الموظفين. لذا، يمكن للمؤسسات توفير بيئة داعمة وبرامج للمساعدة النفسية لمساعدة الموظفين على التكيف مع الضغوط الحياتية.
- برامج التدريب على إدارة التوتر والتحكم بالضغوط النفسية تُعدّ استثمارًا جيدًا لرفع مستوى الأداء الوظيفي وخفض نسبة التغيب.
- العمل عن بُعد حل مرن للتغيب بسبب الأمراض المعدية:
- أظهرت جائحة كوفيد-19 كيف يمكن للتكنولوجيا أن تكون أداة فعالة لضمان استمرارية العمل، حتى في ظل الأزمات الصحية. يمكن للشركات اعتماد العمل عن بُعد في حالات معينة لتقليل احتمالات انتشار الأمراض داخل بيئة العمل.
- التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في متابعة صحة الموظفين:
- تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي تتابع حالة الموظفين الصحية وتقدم نصائح شخصية بناءً على بياناتهم الصحية قد تساعد في تخفيف تأثير الأمراض على الإنتاجية.
- تُتيح هذه التطبيقات تقديم تحذيرات استباقية للموظفين حول تغييرات في حالتهم الصحية، مما يتيح لهم التعامل معها مبكرًا قبل أن تتفاقم.
رابعًا: تعزيز الاستثمار في الصحة – استراتيجية مستدامة لرفع الإنتاجية
يعد الاستثمار في صحة الموظفين استراتيجية اقتصادية مستدامة، حيث أن كل دولار يُنفق على برامج الصحة الوقائية يمكن أن يوفر عدة دولارات من تكاليف العلاج والتغيب. فقد أظهرت دراسة حديثة أن المؤسسات التي تستثمر في برامج الصحة الوقائية تشهد انخفاضًا في معدلات التغيب وزيادة ملحوظة في الإنتاجية.
علاوة على ذلك، فإن تحسين الصحة العامة للموظفين يساهم في رفع مستوى الرفاهية العامة في المجتمع، مما يعود بالنفع على الاقتصاد ككل. فالموظفون الأصحاء يسهمون في استدامة الأداء الاقتصادي ويرفعون من قدرة المؤسسات على تحقيق الأهداف الاستراتيجية على المدى الطويل.
- الصحة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة
إن صحة الموظفين ليست مجرد مسؤولية اجتماعية على المؤسسات والحكومات، بل هي استثمار اقتصادي ضروري لضمان استدامة الأداء. فالتحديات الصحية التي تواجه الأفراد اليوم يمكن أن تؤدي إلى هدر اقتصادي كبير، لكن الحلول الوقائية والتقنيات الحديثة توفر فرصة للحد من هذا الهدر وتحقيق إنتاجية أعلى. وعليه، فإن تعزيز الصحة في مكان العمل يجب أن يكون جزءًا أساسيًا من استراتيجيات المؤسسات لمستقبل اقتصادي قوي ومستدام.