تغيير جوهري في أنظمة الرعاية الصحية
د. بسام درويش
مستشار في الإعلام الصحي والتطوير الطبي
في عالم الرعاية الصحية، حيث تتغير التحديات باستمرار وتزداد الاحتياجات بشكل مطّرد، أصبح التغيير الجوهري في الأنظمة الصحية ضرورة لا ترفاً. يتطلب هذا التغيير فهمًا عميقًا لطبيعة الأنظمة وكيفية تحسينها لتصبح أكثر ملاءمة للعاملين وأقلّ عبئًا على المرضى. ومن الأهمية بمكان أن ندرك أن السبب الأساسي للإحباط بين العاملين غالبًا ما يكمن في العمل ضمن أنظمة غير مُصممة بعناية. بدلاً من تحميل الأطباء والممرضين مسؤولية تحسين الجودة والسلامة وتخفيض التكاليف، ينبغي على القيادة توجيه الجهود نحو تصميم أنظمة ذكية ومتكاملة تعمل على تيسير هذه المهام لهم.
كما تذكر مورين بيسوجنانو، الزميلة في معهد تحسين الرعاية الصحية: “كل شخص في مجال الرعاية الصحية لديه وظيفتان؛ الوظيفة التي تم تعيينه لها، ووظيفة تحسينها باستمرار”. هذه العبارة تلخص الفكرة الأساسية التي يجب أن يرتكز عليها التطوير في الرعاية الصحية: تحسين الأنظمة بحيث تدعم العاملين وتمكنهم من أداء وظائفهم على أكمل وجه.
تحول الرعاية الصحية إلى “صناعة الإنتاج”
شهد قطاع الرعاية الصحية تحولات كبيرة على مدى العقود الماضية، إذ انتقل من نظام محلي فردي إلى نظام إنتاجي يعتمد على تقنيات واستراتيجيات مستوحاة من الصناعات الكبرى مثل صناعة السيارات والطاقة النووية والتصنيع الكيميائي. هذا التحول لم يكن اختيارًا بقدر ما كان ضرورة فرضتها التعقيدات المتزايدة في الرعاية الصحية، والتي جعلت من المستحيل الاعتماد فقط على الخبرات الشخصية والحرفية في تقديم الرعاية.
تم اعتماد استراتيجيات مثل نظام إنتاج تويوتا وLean/Six Sigma وإدارة الموثوقية العالية لتوجيه الرعاية الصحية نحو نماذج تشغيلية أكثر كفاءة. ومع ذلك، كانت هذه الاستراتيجيات محدودة الأثر غالباً، حيث اقتصرت على تحسينات تدريجية ولم تتمكن من تحقيق التحسين الشامل والمستدام المطلوب. فالنظام الصحي بحاجة إلى تحول حقيقي يعيد بناء الهيكل الأساسي للأنظمة ويضمن تكاملها واستدامتها.
التركيز على الأنظمة بدلاً من الأفراد
في محاولات تحسين أداء الرعاية الصحية، غالبًا ما يركز القادة على تغيير سلوك الأفراد وتشجيعهم على تبني أساليب جديدة. لكن الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها هي أن إصلاح الأنظمة نفسها يعد أكثر فعالية وتأثيراً. الأفراد هم انعكاس للأنظمة التي يعملون ضمنها، وعندما تكون هذه الأنظمة غير ملائمة أو مُثقلة بالتحديات، يصبح من الصعب تحقيق التحسينات المستدامة بغض النظر عن مدى كفاءة الأفراد.
وتعكس تجارب بعض الشركات العالمية مثل أمازون وفنادق ريتز كارلتون هذه الحقيقة. فقد بنت هذه المؤسسات أنظمة إنتاج موثوقة تستند إلى تفاعل مثمر بين العاملين والعملاء، مما أدى إلى تحسين مستمر في الأداء وجودة الخدمات. وبدلاً من التركيز على رفع إنتاجية الأفراد فقط، ركزت هذه الشركات على تعزيز كفاءة النظام ككل، وهذا هو الدرس الأهم الذي يمكن أن تتعلمه الرعاية الصحية من هذه التجارب.
تعزيز ثقافة التعلم المستمر
لكي يتم تحقيق تحسين دائم ومستدام في الرعاية الصحية، من الضروري تعزيز ثقافة التعلم المستمر. تعتمد هذه الثقافة على دمج العاملين في جهود التطوير وجعلهم شركاء في التحسين المستمر للنظام. فحين يتمكن العاملون من مشاركة تجاربهم اليومية وتقديم اقتراحاتهم لتحسين النظام، يتحقق التغيير الإيجابي بطريقة عملية وتدريجية.
وعندما يتم دمج الجودة والسلامة في العمليات اليومية للرعاية الصحية، فإن هذه الجوانب تصبح جزءاً لا يتجزأ من جوهر العمل، مما يسهم في تحقيق نتائج إيجابية مستدامة. فالجودة والسلامة ليستا مجرد أولويات إضافية، بل هما أسس يجب أن تتبناها كافة العمليات، من أجل بناء نظام رعاية صحية يقدم الأفضل للمرضى.
نماذج صحية رائدة: دروس في التحسين الشامل
تحقيق التحسين الشامل في الرعاية الصحية ليس بالأمر السهل، لكنه ليس مستحيلاً. لقد نجحت بعض الأنظمة الصحية، مثل جيفرسون هيلث في بنسلفانيا وجنوب نيوجيرسي، وPrisma Health في كارولينا الجنوبية، ومركز بالتيمور الطبي، في بناء نماذج تشغيل ديناميكية تعتمد على التعلم المستمر وإعادة تصميم الأنظمة. هذا النهج جعلها قادرة على تحسين جودة الرعاية وتعزيز ارتباط العاملين برسالتهم الأساسية، حيث يعمل الجميع ضمن نظام يعزز التعاون ويحفزهم على تقديم الأفضل.
الخصائص المشتركة للأنظمة الرائدة
تتسم الأنظمة الرائدة في الرعاية الصحية بخصائص مشتركة تساعدها على النجاح وتحقيق نتائج إيجابية مستدامة، منها:
1. التقدير العميق لالتزام العاملين: تدرك هذه الأنظمة أن العاملين هم الثروة الحقيقية، وتحتفي بإنجازاتهم وتقدر مرونتهم وتفانيهم في العمل. هذا التقدير يعزز من روح الفريق ويدفعهم لبذل المزيد.
2. التكيف مع تعقيدات الرعاية الصحية: تستخدم الأنظمة الرائدة تقنيات حديثة مثل لوحات التحكم الإلكترونية التي تقدم تحديثات آنية حول أولويات الرعاية، مما يساعد الفرق الطبية على توجيه جهودهم بشكل أكثر فعالية وكفاءة.
3. دمج الجودة والسلامة في العمليات اليومية: تعتمد هذه الأنظمة على دمج الجودة والسلامة ضمن العمليات اليومية للرعاية الصحية، مما يضمن تحقيق أفضل النتائج الصحية للمرضى ويعزز من موثوقية النظام الصحي.
4. تعزيز الشفافية: تشدد الأنظمة الرائدة على الشفافية من خلال إتاحة بيانات الأداء والجودة للمرضى والعاملين، مما يسهم في بناء ثقة متبادلة بين مختلف الأطراف ويعزز من تحقيق بيئة عمل شفافة وصادقة.
إعادة التركيز نحو الهدف الأسمى
في نهاية المطاف، يجب أن تكون أنظمة التشغيل في الرعاية الصحية وسيلة لتحقيق الأهداف العليا للرعاية الصحية، وهي تقديم أفضل رعاية ممكنة للمرضى. لا يمكن اختزال دور العاملين في تقديم الرعاية فقط، بل ينبغي أن يكونوا شركاء في تحسين النظام والمشاركة في الجهود المستمرة لتحقيق جودة أعلى وسلامة أكبر.
هذا التوجه نحو الابتكار والتحسين المستمر ليس فقط يعزز من بيئة العمل، بل يخلق ثقافة عمل تدعم الإبداع وتجعل من تحسين الأداء هدفاً مشتركاً يسعى الجميع لتحقيقه. إن الرعاية الصحية الشاملة والمستدامة ليست مجرد مهمة، بل هي رسالة يجب أن تتبناها كافة الأطراف لتحقيق صحة أفضل ومستقبل أكثر إشراقاً للجميع.
للمزيد من المعلومات أو النقاش حول هذا الموضوع، يُرجى التواصل عبر البريد الإلكتروني:
bassam@balsamhealthcare.com