تعارض النسبة على التحويل مع أخلاقيات مهنة الطب
د.بسام درويش
مستشار في الإعلام الصحي والتطوير الطبي
تعتبر مهنة الطب مهنة إنسانية نبيلة غايتها الأساسية تحسين صحة الإنسان والمحافظة على صحته وتحسين جودة حياته ، وهي من أنبل المهن التي خُلقت لخدمة الإنسان، وهدفها الأسمى هو تقديم الرعاية الصحية والعلاج اللازم للمرضى دون تمييز أو استغلال. وللأسف فقد شوه البعض هذه طبيعة المهنة من خلال ممارساته التي تتنافى مع القسم الطبي ” أبقراط “، ففي السنوات الأخيرة، ظهرت بعض الممارسات التجارية التي تهدد مبادئ هذه المهنة، مثل نظام النسبة على التحويل، الذي يُحوِّل المريض إلى وسيلة لتحقيق الربح. هذه الممارسات التجارية لا تتعارض فقط مع الأخلاقيات الطبية، بل تؤدي إلى تقويض الثقة بين الطبيب والمريض، مما قد يعرض حياة المرضى للخطر.
المريض إنسان
المريض إنسان لديه أحاسيس ومشاعر، وأشخاص محبين له ، وله قيمة في أي مجتمع مهما كان عمله ، ولهذا فهو يستحق الرعاية الصحية اللازمة وفقاً لاحتياجاته الطبية فقط، وليس وفقاً للفوائد المالية التي قد يجلبها للمؤسسة أو للطبيب. ومهنة الطب ليست مهنة تجارية، على الرغم من أنها المهنة التي يعيش من دخلها الطبيب ، ولكن لا يجوز بحال من الأحوال أن يتم ذلك على حساب آلام المريض وآهاته ، وحساباته ومن يدفع فاتورته ، وعندما تتحول القرارات الطبية إلى قرارات مالية تستهدف الربح، فإن ذلك يتعارض مع مبدأ “المريض أولاً”، ويضع الطبيب في إطار تجاري غير أخلاقي. يجب أن يكون تقديم الرعاية الصحية قائماً على احتياجات المريض فقط، وليس على أي اعتبارات مالية.
لماذا تتعارض النسبة على التحويل مع أخلاقيات مهنة الطب؟
- تضارب المصالح: النسبة على التحويل تضع الأطباء في موقف يتعارض فيه واجبهم الأخلاقي مع مصالحهم المالية. بدلاً من أن تكون مصلحة المريض هي الأساس في اتخاذ القرار الطبي، قد يدفع الطبيب باتجاه التحويل بناءً على الفائدة المالية المحتملة. هذا التضارب يضر بمصداقية الطبيب ويمثل انتهاكًا لمبادئ المهنة.
- إخلال بمبدأ العدالة: إحدى الركائز الأساسية لمهنة الطب هي العدالة في تقديم الرعاية الصحية. عند تفضيل المرضى الذين يمكنهم تقديم أرباح أكبر عبر التحويلات، يتم خلق تمييز في الوصول إلى الرعاية الصحية، مما يشكل انتهاكًا لحق المريض في الحصول على رعاية عادلة ومتساوية.
- تقويض الثقة بين الطبيب والمريض: الثقة هي حجر الأساس في العلاقة بين الطبيب والمريض. عندما يشعر المريض بأن قرارات الطبيب قد تكون مدفوعة بمصالح مالية بدلاً من احتياجاته الصحية، تنهار هذه الثقة، مما يؤدي إلى توتر العلاقة الطبية وإضعاف فعالية العلاج.
- تعريض حياة المرضى للخطر: النسبة على التحويل قد تؤدي إلى تحويل المرضى إلى مؤسسات أو أطباء لا يقدمون الرعاية المثلى لحالتهم، مما يعرض حياتهم للخطر. الهدف من التحويل الطبي يجب أن يكون تحسين حالة المريض، وليس تحقيق أرباح إضافية.
تطبيق المبادئ الأخلاقية
لتجنب التأثيرات السلبية لنظام النسبة على التحويل وضمان الالتزام بأخلاقيات مهنة الطب، يجب اعتماد سياسات وإجراءات تهدف إلى حماية حقوق المرضى وتعزيز النزاهة في تقديم الرعاية الصحية.
- التشريعات والقوانين: يتعين على الحكومات والهيئات التنظيمية وضع قوانين صارمة تحظر أي ممارسات مالية تتعلق بتحويل المرضى. يجب أن تشمل هذه التشريعات حظر دفع النسبة على التحويل، وضمان عدم استغلال المرضى لأغراض ربحية. كما يجب أن تفرض عقوبات رادعة على المؤسسات والأطباء الذين يخرقون هذه القوانين.
- الشفافية في تقديم الرعاية الصحية: يجب على الأطباء والمؤسسات الطبية أن يوضحوا للمرضى أسباب تحويلهم إلى أطباء أو مؤسسات أخرى، وأن يتم التأكيد على أن هذه التحويلات قائمة فقط على الاعتبارات الطبية. تعزيز الشفافية يساهم في بناء الثقة بين المرضى والأطباء، ويضمن أن تكون القرارات الطبية قائمة على أفضل مصلحة للمريض.
- التثقيف الطبي المستمر: يجب أن يتلقى الأطباء والممارسون الصحيون تدريباً مستمراً حول الأخلاقيات المهنية، بما في ذلك كيفية اتخاذ قرارات طبية تتفق مع مصلحة المريض أولاً وقبل كل شيء. التعليم الطبي المستمر يعزز من الوعي الأخلاقي ويساعد الأطباء على تجنب الضغوط المالية التي قد تؤدي إلى ممارسات غير أخلاقية.
- الرقابة الداخلية وتعزيز الأخلاقيات المؤسسية: يجب على المؤسسات الطبية إنشاء لجان أخلاقية مستقلة تتولى مراجعة القرارات الطبية المتعلقة بتحويل المرضى. هذه اللجان يمكنها التأكد من أن التحويلات تتم بناءً على معايير طبية واضحة وليست بناءً على دوافع مالية. كما يجب تعزيز الثقافة المؤسسية التي تركز على مصلحة المريض أولاً، وتجنب الربحية على حساب الرعاية الصحية.
- نظام تعويض قائم على الجودة: بدلاً من الاعتماد على النسبة على التحويل كوسيلة لتعويض الأطباء، يجب تبني نظام تعويض يقوم على جودة الرعاية المقدمة والنتائج العلاجية. هذا النظام يشجع الأطباء على التركيز على تقديم أفضل رعاية ممكنة للمرضى، بدلاً من تحقيق أرباح من خلال التحويلات.
الصحة للجميع ومن خلال الجميع
- التعاون بين الحكومات والمؤسسات الصحية: لضمان الالتزام بالأخلاقيات المهنية، يجب أن يكون هناك تنسيق وثيق بين الحكومات والمؤسسات الصحية. هذا التعاون يمكن أن يسهم في تبني سياسات صحية شفافة وعادلة تضع مصلحة المريض في المقام الأول.
- إشراك المجتمع الطبي في الرقابة:
الأطباء والممارسون الصحيون يجب أن يكونوا جزءًا من عملية الرقابة على الالتزام الأخلاقي. تشجيع الأطباء على التبليغ عن أي ممارسات غير أخلاقية داخل مؤسساتهم يساهم في تعزيز نزاهة المهنة وحماية حقوق المرضى.
الانتصار للعلم والأخلاق
لا يمكن أن تكون الرعاية الصحية مجالاً للتجارة على حساب مصلحة المريض. يجب أن تظل الأخلاقيات هي الركيزة الأساسية لمهنة الطب، حيث تكون مصلحة المريض فوق كل اعتبار. من خلال اعتماد قوانين صارمة، وتعزيز الشفافية، والتدريب المستمر، يمكننا ضمان أن تكون الرعاية الصحية قائمة على احترام حقوق المريض، وتقديم أفضل الخدمات الصحية بعيدًا عن أي اعتبارات مالية. الحفاظ على نزاهة مهنة الطب هو مسؤولية مشتركة بين الحكومات، المؤسسات الصحية، والأطباء لضمان تقديم رعاية صحية عادلة وإنسانية للجميع.
وهذا ما يميز طبيب عن طبيب آخر ، فالطبيب الحكيم هو الذي يسخر علمه وأخلاقه ومهاراته لمصلحة الإنسان المريض أولاً.
قسم أبقراط:
يُعتبر قسم أبقراط أحد أهم وأقدم الرموز التي تمثل الأخلاقيات الطبية، حيث يرجع تاريخه إلى حوالي القرن الخامس قبل الميلاد. وقد أصبح هذا القسم مرجعاً أساسياً يلتزم به الأطباء حول العالم، ويرمز إلى القيم والمبادئ التي يجب أن تحكم سلوكيات الأطباء في ممارسة مهنة الطب.
نص القسم:
“أقسمُ بالله العظيم، وأقسمُ بشرفي أن أكرس حياتي لخدمة الإنسانية.
سأضع صحة المريض وراحته فوق كل اعتبار، وأحترم أسرار مرضاي وأبذل قصارى جهدي للحفاظ على شرف مهنة الطب.
سأقدم المساعدة لمن يحتاجها دون تمييز أو تحيز، وسأحترم زملائي الأطباء وسأبقى مخلصاً لهم وللمهنة.
سأبذل جهدي لتطوير نفسي وتحسين معارفي الطبية، وسأكون مستعداً لمساعدة زملائي ومواصلة التعلم.
لن أستخدم معرفتي الطبية للإضرار بأي شخص، وسأحافظ على الحياة الإنسانية في جميع مراحلها، من بدايتها وحتى نهايتها الطبيعية.
أقسمُ أنني سأمارس مهنة الطب بصدق وكرامة، وسأعمل دائماً على تعزيز الصحة العامة والتخفيف من المعاناة.”
ميثاق شرف
قسم أبقراط، في صيغته القديمة أو الحديثة، يمثل ميثاق شرف للأطباء يحدد مسؤولياتهم تجاه المرضى والمجتمع. وبالرغم من مرور آلاف السنين على صياغته، ما زال القسم يحتفظ بأهميته الكبيرة، حيث يركز على القيم التالية:
1. التزام بصحة المريض: صحة المريض تأتي دائماً في المقام الأول، دون أي اعتبارات مالية أو شخصية.
2. احترام السرية الطبية: حماية خصوصية المريض أمر ضروري لا يمكن التهاون فيه.
3. التطوير المستمر: الالتزام بتعلم كل جديد في مجال الطب لمواكبة التقدم وتقديم أفضل رعاية طبية ممكنة.
4. التزام بالأخلاق الطبية: الالتزام بمبادئ النزاهة والشرف في ممارسة الطب، والامتناع عن أي ممارسات قد تضر بالمرضى.
الدافع المالي
يعد قسم أبقراط بمثابة حاجز أخلاقي قوي ضد ممارسات مثل نظام النسبة على التحويل، الذي يتعارض مع مبادئ القسم. حيث أن النظام يشكل تهديداً لمصلحة المريض ويحول الطب من مهنة خدمية إلى مهنة ذات دوافع مالية. وبالتالي، الالتزام بقسم أبقراط يعني رفض هذه الممارسات والتمسك بمبادئ النزاهة، العدالة، والشفافية في تقديم الرعاية الطبية.
تعهد والتزام
قسم أبقراط ليس مجرد كلمات، بل هو تعهد أخلاقي يتعين على كل طبيب الالتزام به طوال حياته المهنية. الالتزام بالقسم يعني وضع مصلحة المريض أولاً في كل قرار طبي، واحترام مبادئ العدالة والنزاهة في الرعاية الصحية.
bassam@balsamhealthcare.com
المراجع المعتمدة:
- World Medical Association (WMA). (2013). Declaration of Geneva: A modern version of the Hippocratic Oath, emphasizing the commitment to patient welfare over financial gain.
- American Medical Association (AMA). (2021). Code of Medical Ethics: Ethical guidelines that prohibit financial incentives for patient referrals and emphasize patient-centered care.
- World Health Organization (WHO). (2018). Health Systems Governance for Universal Health Coverage: Focuses on the importance of ethical governance in healthcare systems and ensuring equitable access to quality care.
- General Medical Council (GMC) (UK). (2020). Good Medical Practice: Sets the ethical standards