د.بسام درويش
مستشار في الإعلام الصحي والتطوير الطبي
علمتنا جائحة كورونا أن الوقاية أولا ، وأن الصحة لا تعوض بثمن ، ومدى أهمية إدارة المرض وفق الأدلة والبراهين العلمية والتدخلات الاستباقية والعاجلة أيضاً . ورغم ما فرضته من إعادة تشكيل جذري لنظم الرعاية الصحية العالمية والاقتصادية ، إلا أننا لم نقم بالتطوير المطلوب في النظم الصحية ، والمناهج الطبية ، والتعليمية ، و أساليبنا في التوعية الصحية ما زالت تعتمد على الأساليب التي نطبقها منذ عقود ، وأثبتت التجارب وجائحة كورونا أن تلك الوسائل والمناهج لم تعد مناسبة ، لأن قواعد اللعبة تغيرت ، وحتى تنتصر وتنجح ، لا بد من فهم عميق لما حدث.
كشفت جائحة كورونا أهمية الوقاية وتبني التكنولوجيا الطبية الحديثة كركيزة أساسية لتحقيق استجابة فعّالة للتحديات الصحية المعاصرة. في الوقت الذي غيرت فيه الجائحة قواعد اللعبة، بقيت مناهج التعليم الطبي التقليدية ثابتة، تركز على التعليم النظري والعلاج دون إعطاء اهتمام كافٍ للوقاية أو الأدوات التكنولوجية المتقدمة. هذا التباين يثير التساؤل: لماذا لم تتغير مناهج الطب رغم تغير الواقع الطبي، وما الذي ننتظره للبدء في هذا التغيير؟
الدروس المستفادة من الجائحة:
لماذا يجب على مناهج الطب التركيز على الوقاية؟
لقد علمتنا جائحة كورونا أن الوقاية تعدّ خط الدفاع الأول في إدارة الأوبئة والأمراض، وأن تدريب الأطباء على التوعية الصحية وإجراءات الوقاية لا يقل أهمية عن تعليمهم طرق العلاج. رغم هذا، تركز المناهج الطبية التقليدية على تأهيل الأطباء للتعامل مع الحالات المرضية وعلاجها، بينما تُهمل الوقاية والتوعية الصحية، وهي مقاربة أصبحت غير كافية في ضوء التحديات الحالية.
دراسات داعمة:
وفقًا لدراسة أجريت في جامعة ماكجيل الكندية، أظهرت نتائج إيجابية لتعليم الوقاية وتدريب الطلاب على التعامل مع الأمراض المزمنة والوقاية منها كجزء من المناهج الطبية، حيث أثبت الطلاب قدرة أكبر على تقديم استشارات وقائية وإدارة الحملات التوعوية المتعلقة بالصحة العامة. كذلك، أوضحت الدراسة أن هذا النوع من التعليم يقلل من احتمالات الإصابة بالأمراض المزمنة على المدى الطويل ويحد من العبء الاقتصادي على أنظمة الرعاية الصحية.
دور الذكاء الاصطناعي في تحسين التعليم الطبي
أثبتت جائحة كورونا أن التكنولوجيا يمكن أن توفر حلولاً فعالة للحفاظ على استمرارية التعليم الطبي حتى في الظروف الصعبة، وأن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يلعب دورًا حاسمًا في تحسين جودة الرعاية الصحية. تقدم تقنيات الذكاء الاصطناعي اليوم أدوات تحليلية تساعد الأطباء على تشخيص الأمراض بشكل أسرع وأكثر دقة، وتمكن من التنبؤ بالأوبئة وإدارة البيانات الصحية الكبيرة بفعالية. على الرغم من ذلك، لا تزال معظم مناهج الطب تفتقر إلى تضمين هذه الأدوات في التعليم الطبي، مما يحرم الطلاب من فرصة الاستفادة من إمكانياتها الهائلة في تحسين الأداء الطبي.
تجارب ناجحة
طورت جامعة ستانفورد نموذجًا مبتكرًا يعتمد على استخدام تقنيات الواقع الافتراضي (VR) والواقع المعزز (AR) في التعليم الطبي، مما يتيح للطلاب تجربة عمليات جراحية ومحاكاة سيناريوهات طبية بشكل آمن وتفاعلي. أظهرت الدراسة التي أجرتها الجامعة أن الطلاب الذين استخدموا هذه التكنولوجيا حققوا تحسنًا في المهارات العملية بنسبة 60% مقارنةً بزملائهم الذين لم يتلقوا التدريب الافتراضي، مما يعكس الأثر الكبير لاستخدام التكنولوجيا في التعليم الطبي.
التحديات التي تواجه تحديث مناهج التعليم الطبي
رغم الدروس المستفادة من الجائحة والتطورات التكنولوجية، لا تزال كليات الطب تواجه تحديات كبيرة في تحديث مناهجها. من بين هذه التحديات:
- التقاليد الأكاديمية الراسخة: يعتمد التعليم الطبي على أساليب تقليدية أثبتت نجاحها في الماضي، ويواجه الأكاديميون صعوبة في التخلي عنها لصالح مناهج تركز على التكنولوجيا والوقاية.
- البنية التحتية والتمويل: يتطلب تطوير المناهج الطبية استثمارات كبيرة، سواء في بناء مختبرات محاكاة متقدمة أو في توفير التكنولوجيا اللازمة لتعليم الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي. في كثير من الأحيان، تواجه الجامعات تحديات في توفير التمويل اللازم، مما يؤخر إدخال المناهج الحديثة.
- التعقيدات البيروقراطية: تتطلب عملية اعتماد المناهج الجديدة المرور بإجراءات معقدة والتوافق مع المعايير الصارمة التي تحددها هيئات الاعتماد الطبي، مما قد يستغرق سنوات قبل تنفيذ التغييرات.
ما الذي ننتظره من أجل التحديث؟
مع كل ما تعلمناه من جائحة كورونا والتقدم في الذكاء الاصطناعي، أصبح من الواضح أن تطوير مناهج التعليم الطبي لم يعد خيارًا بل ضرورة. يمكن أن يكون هذا التطوير موجهًا وفق مجموعة من الخطوات الأساسية:
- وضع رؤية حديثة للتعليم الطبي: يجب أن يكون لكل كلية طب رؤية واضحة تهدف إلى تبني مهارات الوقاية والصحة العامة كجزء أساسي من المناهج، إلى جانب المهارات التقنية المطلوبة لمواكبة التطورات التكنولوجية.
- توسيع التعاون مع المؤسسات الصحية والتقنية: التعاون بين الجامعات وشركات التكنولوجيا يمكن أن يوفر الأدوات والتقنيات الحديثة لتطبيق التعليم الرقمي، بالإضافة إلى دعم المعرفة اللازمة للاستفادة من الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات وتقديم الرعاية الوقائية.
- تطوير نظام التقييم القائم على المهارات العملية والتحليلية: يجب أن يعتمد نظام التقييم في المناهج الحديثة على قياس المهارات العملية والتحليلية لدى الطلاب، وليس الاقتصار على المعلومات النظرية.
- إطلاق برامج تدريب للأساتذة: التعليم الطبي الحديث يتطلب من الأكاديميين التكيف مع التكنولوجيا الجديدة، مما يستدعي تقديم برامج تدريبية تهدف إلى تعزيز قدراتهم على تطبيق التعليم الرقمي وأدوات الذكاء الاصطناعي في التدريس.
- تقديم التمويل اللازم: يتطلب تحديث المناهج استثمارات مالية كبيرة لبناء بنية تحتية قوية، من مختبرات ومحاكاة رقمية، وتقديم دعم حكومي أو خاص يمكن أن يكون حلاً لتسريع عملية التحديث.
نحو جيل جديد من الأطباء لمواجهة تحديات الغد
أثبتت التجارب العالمية أن تحديث مناهج التعليم الطبي يمكن أن يحدث نقلة نوعية في مستوى التدريب الطبي وكفاءة الخريجين. مع دمج الوقاية كجزء رئيسي من التعليم، والاستفادة من الذكاء الاصطناعي في تعزيز المهارات التحليلية، يمكننا بناء جيل من الأطباء يتمتعون بقدرات شاملة ومرونة عالية للتعامل مع التحديات الصحية المعاصرة.
إن انتظار التطوير قد يعرضنا لخطر التأخر عن الركب، ويجعل نظام الرعاية الصحية لدينا غير قادر على مواكبة تطلعات العصر.
bassam@balsamhealthcare.com