د.بسام درويش مستشار في الإعلام الصحي والتطوير الطبي
يعد العمل بنظام الورديات من أساسيات الاقتصاد الحديث، خاصة في مجالات الرعاية الصحية، النقل، الأمن، والمرافق العامة التي تتطلب خدمات على مدار الساعة. على الرغم من أهمية هذا النظام في تلبية احتياجات المجتمع، فإن الأدلة العلمية تشير بوضوح إلى أنه يرتبط بمخاطر صحية كبيرة تؤثر على العاملين ليلًا أكثر من أقرانهم. هذا المقال يستعرض تلك المخاطر، ويحلل التأثيرات الصحية والاقتصادية لها، مع اقتراح استراتيجيات للوقاية والتخفيف من هذه المخاطر. العمل بنظام الورديات ضرورة لا غنى عنها، في المؤسسات التي تقدم خدمات جليلة للمجتمع ، وتسهر على حمايته وأمنه وأمانه ، وسلامته ، ورعايته خاصة في المستشفيات، لضمان تقديم الرعاية المستمرة للمرضى. ومع ذلك، يتعارض العمل الليلي بشكل مباشر مع الساعة البيولوجية للجسم، ما يؤدي إلى اضطرابات في دورات النوم والاستيقاظ. وأكدت منظمة الصحة العالمية عام 2020 أن العمل الليلي يُعتبر “مسببًا محتملاً للسرطان” من الفئة 2A، إذ تشير الدراسات إلى زيادة احتمالية الإصابة ببعض أنواع السرطان بين العاملين ليلاً، بما في ذلك سرطان الثدي والبروستاتا. التأثيرات الصحية للعمل بنظام الورديات أظهرت دراسة نُشرت في مجلة الطب المهني والبيئي عام 2017 أن حوالي 20-30% من العاملين بنظام الورديات يعانون من اضطرابات النوم المزمنة. هذه الاضطرابات تشمل قصر مدة النوم والإرهاق المستمر، ما يؤثر سلباً على الأداء اليومي والصحة العقلية والجسدية. وأكدت مؤسسة النوم الوطنية في استطلاع أجرته عام 2020 أن العمال بنظام الورديات يحصلون على ساعات نوم أقل من 6 ساعات يوميًا بنسبة 44% مقارنة بأقرانهم. زيادة خطر أمراض القلب والأوعية الدموية أظهرت دراسة تحليلية نشرتها مجلة القلب الأوروبية عام 2018 أن العمل الليلي المنتظم يزيد من خطر الإصابة بأمراض القلب بنسبة 41%. هذا الخطر يعزى إلى قلة النوم وزيادة مستويات التوتر إلى جانب العادات الغذائية غير الصحية التي تتبع من قِبل العاملين ليلًا. اضطرابات الجهاز الهضمي يعد الجهاز الهضمي من أكثر الأنظمة تأثرًا بنظام الورديات؛ إذ يعاني العاملون ليلاً من معدلات أعلى لاضطرابات الجهاز الهضمي مثل عسر الهضم وقرحة المعدة ومتلازمة القولون العصبي. وجدت دراسة نشرتها مجلة التغذية والتمثيل الغذائي عام 2019 أن معدلات الإصابة بهذه الاضطرابات تصل إلى 35% بين العمال بنظام الورديات مقارنة بالعمال النهاريين. التأثيرات النفسية والصحية النفسية العمل بنظام الورديات يزيد من مستويات القلق والاكتئاب. في دراسة نُشرت عام 2020 في مجلة الطب النفسي المهني، وُجد أن العاملين بنظام الورديات كانوا أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب بنسبة 23%، مما يُعزى إلى العزلة الاجتماعية وعدم الاستقرار في جدول النوم وضغوط العمل المستمرة. أمراض ال والاستقلاب والسمنة الأشخاص الذين يعملون ليلاً هم أكثر عرضة للسمنة وأمراض الأيض كمرض السكري من النوع الثاني. وجدت دراسة أجرتها جامعة هارفارد عام 2021 أن النساء اللاتي يعملن ليلاً يزيد لديهن خطر الإصابة بالسكري بنسبة 19%، كما أن التغيرات في هرمونات الجوع والشبع بسبب اضطراب الساعة البيولوجية قد يؤدي إلى زيادة الوزن.
التأثيرات الاقتصادية لنظام الورديات يؤثر العمل بنظام الورديات سلبًا على الاقتصاد من عدة جوانب. تكاليف الرعاية الصحية للعاملين ليلًا مرتفعة، حيث يتطلب علاج اضطرابات النوم وأمراض القلب والأوعية الدموية والأمراض المزمنة الأخرى تكاليف باهظة. كما يتسبب الإرهاق والتوتر المزمن الناتج عن العمل الليلي في خفض الإنتاجية وزيادة حوادث العمل، ما يؤدي إلى تكاليف إضافية للشركات والحكومات. على سبيل المثال، قدّرت إحدى الدراسات أن العاملين بنظام الورديات يخسرون إنتاجية تصل إلى 6,000 دولار سنويًا للفرد بسبب التغيبات المتكررة والإرهاق، مما يترجم إلى خسائر اقتصادية ضخمة على مستوى الاقتصاد الكلي. بالإضافة إلى ذلك، قد تزيد تكاليف التأمين الصحي على الشركات بسبب ارتفاع نسبة الأمراض المزمنة بين العاملين بنظام الورديات. استراتيجيات الوقاية مع إدراك هذه المخاطر، تبرز الحاجة إلى استراتيجيات وقائية للحفاظ على صحة العاملين. تشمل هذه الاستراتيجيات ما يلي: • تنظيم النوم: توفير بيئة مناسبة للنوم خلال النهار للعاملين الليليين، واستخدام ستائر تمنع الضوء ومحفزات النوم مثل سماعات عازلة للضوضاء. • التغذية السليمة: تعزيز الوعي بأهمية تناول وجبات صحية وتجنب الوجبات السريعة والمشروبات الغنية بالكافيين. • التدريبات البدنية المنتظمة: ممارسة التمارين الرياضية بانتظام يمكن أن يساعد في تحسين جودة النوم والتقليل من التوتر. • الفحوصات الطبية الدورية: تقديم فحوصات صحية مستمرة للعاملين لتحديد أي مشاكل صحية في مرحلة مبكرة. • توفير بيئة عمل مرنة: التفكير في تطبيق جداول تناوبية توفر أوقاتًا للراحة أو قيلولة قصيرة خلال العمل الليلي لتحسين الأداء وتقليل الإرهاق. هناك العديد من التجارب الناجحة التي طبقتها شركات ومؤسسات حول العالم للتخفيف من التأثيرات السلبية للعمل بنظام الورديات، والتي يمكن الاستفادة منها لتطبيق سياسات مماثلة في مؤسسات أخرى. فيما يلي بعض التجارب البارزة: برنامج “جدولة الورديات التناوبية” مستشفى كليفلاند كلينك أدخلت نظام الورديات التناوبية الذي يراعي الساعة البيولوجية، حيث يتم تطبيق نظام الورديات بترتيب متقدم (أي أن وردية الصباح تتبعها وردية الظهر ثم وردية الليل). هذا الترتيب يسمح للعاملين بالتكيف تدريجياً مع التحولات في الأوقات، ويمنحهم فترات كافية للتعافي بين الورديات، مما يقلل من الإرهاق المزمن ويحسن جودة النوم. أظهرت نتائج هذا النظام انخفاضًا في عدد الشكاوى المرتبطة بالأرق وقلة النوم بنسبة تصل إلى 30%. ممارسة “قيلولة منتصف الوردية” تبنت إدارة مطار ناريتا الدولي في اليابان سياسة تتيح للعاملين أخذ قيلولة قصيرة (20-30 دقيقة) خلال الوردية الليلية، حيث أثبتت الدراسات أن القيلولة القصيرة تحسن الأداء وتزيد من اليقظة والتركيز. تم تجهيز غرف خاصة هادئة لهذا الغرض، وتبين من خلال الدراسات أن هذه السياسة ساعدت في خفض الحوادث والإصابات بنسبة 40%، بالإضافة إلى تحسين الأداء والإنتاجية. برنامج “المساعدة الصحية والغذائية” في خطوة لتعزيز صحة العاملين بنظام الورديات، قدمت شركة شل برنامجًا يتضمن تقديم وجبات غذائية متوازنة غنية بالبروتين ومنخفضة الكربوهيدرات للعاملين في الورديات الليلية، إلى جانب استشارات غذائية دورية. كما وفرت الشركة دعمًا صحيًا عبر توفير جلسات توعية لتثقيف العاملين حول أهمية التغذية السليمة وتنظيم النوم. أسهم هذا البرنامج في تقليل معدلات السمنة وأمراض الجهاز الهضمي بين العاملين بنسبة 25%. برنامج اللياقة البدنية والنفسية” وكالة ناسا طبقت برنامجًا متكاملًا يركز على تعزيز اللياقة البدنية والصحة العقلية للعاملين في الورديات الليلية. يتضمن البرنامج توفير تمارين رياضية مصممة خصيصًا لتنشيط الدورة الدموية وتحسين التركيز، بالإضافة إلى جلسات دعم نفسي للمساعدة في تقليل مستويات التوتر. كشفت التقييمات الدورية لهذا البرنامج عن تحسن ملحوظ في مستوى اللياقة العامة وتقليل نسبة الأعراض النفسية المرتبطة بالإرهاق والتوتر بنسبة 35%. إضاءة ليلية متكيفة” أجرت شركة فليبس تجارب على استخدام إضاءة ليلية متكيفة تساعد على تقليل تأثير التعرض للضوء الصناعي على الساعة البيولوجية، وذلك من خلال تعديل شدة الإضاءة وفقًا للوقت. تم تصميم الإضاءة بحيث تُحفز اليقظة خلال ساعات العمل وتقلل من التأثير السلبي على إفراز الميلاتونين، مما يتيح للعاملين النوم بسهولة أكبر بعد نهاية الوردية. أظهرت الدراسات أن هذه التقنية حسّنت جودة النوم بنسبة تصل إلى 20% بين العاملين الليليين. برنامج “الرعاية الشاملة للصحة النفسية” أدخلت هيئة الخدمات الصحية الوطنية (NHS) برنامجًا لدعم الصحة النفسية للعاملين بنظام الورديات، حيث يتضمن البرنامج خدمات استشارية ودعمًا نفسيًا دوريًا، إلى جانب ورش عمل لتحسين مهارات إدارة التوتر. وجد أن هذا البرنامج ساعد العاملين في تقليل مستويات القلق والاكتئاب، كما أسهم في زيادة الرضا الوظيفي وتقليل معدل التغيب عن العمل بنسبة 15%. برنامج “المرونة في الجدولة” أدخلت جوجل سياسة تتيح للموظفين العمل بنظام الورديات بمرونة تتناسب مع نمط حياتهم وحاجاتهم الفردية، بحيث يُسمح لهم باختيار أوقات العمل المناسبة لهم بناءً على “كرونوتيب” الفرد (النوع الليلي أو الصباحي من الأفراد). هذه المرونة في الجدولة ساهمت في تحسين رضا العاملين وأدائهم، وتقليل معدلات الإرهاق. أثبتت هذه التجارب العملية أن بإمكان المؤسسات تبني سياسات متنوعة مثل الجدولة التناوبية، وإدخال قيلولة منتصف العمل، وتقديم دعم صحي ونفسي، وتعديل البيئة المحيطة مثل الإضاءة، لتعزيز صحة العاملين وتقليل التأثيرات السلبية للعمل بنظام الورديات. الفحص الطبي الدوري للعاملين يمكن للشركات والمؤسسات أن توفر برنامجاً للفحص الطبي الدوري للعاملين بنظام الورديات، يتضمن متابعة مؤشرات صحية معينة مثل ضغط الدم، نسبة السكر في الدم، ومؤشرات النوم. بفضل هذا النظام، تتمكن الشركة من رصد أي مشاكل صحية مبكرًا، وتقديم تدخلات علاجية ووقائية مناسبة، مما يساعد في تقليل معدل الأمراض المزمنة بين العاملين بنسبة 20% على الأقل .
بينما يعد العمل بنظام الورديات ضرورة ملحة للعديد من القطاعات الحيوية، فإنه لا يخلو من تأثيرات سلبية على صحة العاملين واقتصاديات المؤسسات. يظهر بوضوح أن هذه التبعات تتطلب جهودًا مشتركة من أصحاب العمل والمؤسسات الصحية لوضع سياسات دعم وتوعية للعاملين بهذا النظام، مع توفير الرعاية الصحية المناسبة والاستفادة من التكنولوجيا لتعزيز جودة حياتهم. bassam@balsamhealthcare.com